
بين كل البيانات التي صدرت إثر اجتماعات وزير الخارجية الكويتي الشيخ الدكتور أحمد الناصر مع المسؤولين العراقيين، بدا لافتاً أن ما صدر عقب لقائه رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي يختلف عن الصياغات الديبلوماسية والبروتوكولية، ويصب مباشرة في صلب المصلحة المشتركة للبلدين.
بيان خلا من المجاملات وامتلأ بكلام عملي هو أقرب لخطوات وخطط نظراً إلى طبيعة المواضيع التي نوقشت، من الأمن المائي والإرهاب والتحديات الاقتصادية إلى أزمة «كورونا» وتدهور أسعار النفط… ليصل إلى بيت القصيد: «التحرر من مخاوف الماضي وبناء مستقبل جديد بين الكويت والعراق».
رئيس وزراء العراق الجديد ليس جديداً بالنسبة إلى القيادة الكويتية، فهي تعرفه وهو يعرفها، وقد يأتي يوم تكتب فيه في الكويت سيرة هذا الرجل إن ارتضى هو ذلك، كونه لعب أدواراً في مواجهة الديكتاتورية والطغيان والغزو فضّل أن تبقى طي الدفاتر التاريخية التي ستفتح يوماً ما.
ويستذكر كويتيون التقوا الكاظمي خلال مرحلتي غزو صدام والتحرير أنه طالما اعتبر الوحشية التي مارسها ذاك النظام ضد دولة جارة امتداداً لوحشيته ضد كل مواطن عراقي، وأن من يسرق مستقبل العراقيين يسرق أراضي جيرانه أيضاً.
يقول قريبون من الكاظمي أن لقاءه بالشيخ أحمد الناصر أسعده جداً، ورسالة سمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد التي نقلها حملت كالعادة «كل الخير والمحبة»، وكانت أشبه بشرفة كبيرة يطل منها البلدان على آفاق مختلفة من العلاقات والمصالح والتعاون الجدي في مختلف الميادين. ومن يعرف الرجل يدرك كم يعتبر الكويت الجارة الأقرب إلى الحدود والقلوب، وينبهر بقدرته على سرد التشابك التاريخي بين العائلات والقبائل والمناطق والأسواق والتجارة وعلى استذكاره حتى الأسماء المتعلقة بملف المصاهرات منذ عقود طويلة.
يحدد الكاظمي – وفق القريبين منه – جملة أمور لا بد منها لانطلاق العلاقات العراقية – الكويتية بشكل أسرع إلى مستقبل أفضل:
أولها، سيادة مبدأ حسن النية والبناء على موقف الحكومة المركزية في بغداد التي تمثل غالبية المكونات العراقية «فالفضاء الإعلامي في كل الدول اليوم يزخر بكل أنواع التعبير بعضها يعكس موقف صاحبه وبعضها يعكس موقف صاحب صاحبه (والمعنى معروف) الذي قد لا يكون محلياً، لذلك فالبناء دائماً يكون على الموقف الرسمي».
وثانيها، الانخراط في ورشة سلام حضارية مشتركة بين الدولتين لطي صفحة الماضي، وهو في هذا المجال يمتلك رؤية شاملة تربوية (تبدأ من المناهج الدراسية) وثقافية وسياسية واقتصادية وإعلامية.
وثالثها، الإسراع في معالجة الملفات العالقة وفق القواعد القانونية والأخوية التي ترعى مصالح الطرفين، «ليس من باب سد الذرائع فحسب بل لإحقاق الحقوق ولإزالة أي معوقات من درب التعاون». وفي هذا المجال يمتلك رئيس وزراء العراق رؤية متقدمة للتعامل مع جملة ملفات أهمها الحدود البحرية والتعويضات.
ورابعها، إطلاق ورشة تعاون في كل المجالات، «فكلما انطلق قطار العمل المنتج خفت التباينات»، مشيراً في هذا المجال إلى «الفرص الجبارة الموجودة والثروات المتاحة التي لا يجوز تأخير استثمارها واستغلالها في عالم يواجه تحديات اقتصادية مخيفة».
وخامسها، تفعيل وتطوير عمل اللجان المشتركة بين البلدين ومنحها سلطات قرار للإسراع في عملها وتذليل العقبات البيروقراطية التي تواجهها، وهو كان حريصاً على أن يدرج في البيان الذي أعقب اجتماعه مع أحمد الناصر ضرورة تفعيل مقررات مؤتمر الكويت للمانحين وإعادة إعمار العراق ولجان متابعته، كون هذا الأمر وحده كفيلاً برفع مستوى التعاون المشترك لآفاق غير مسبوقة.
وسادسها، التنسيق الدائم لمواجهة العواصف الإقليمية وتداعياتها ونتائجها خصوصاً على المستويين العسكري والأمني، عبر مقاربة أي موضوع وحله بالطرق السلمية وفق قرارات الشرعية الدولية والمصالح المشتركة، والنأي بالمنطقة عن التجاذبات الإقليمية الدولية ما أمكن والابتعاد عن سياسة المحاور، والتركيز على السيادة الوطنية واستمرار بناء المؤسسات والتفرغ لتحديات التنمية ومنعة المواطن وحماية حقه في مستقبل رغيد وواعد في كل المجالات.
الكثير يمكن أن يكتب عن رؤية الكاظمي للعلاقات مع الكويت بكل فصولها السابقة والحاضرة والمستقبلية، لكن المرتحل في عقل الرجل عبر تجربته النضالية ضد الديكتاتورية ثم المنفى ثم استمرار المقاومة عبر سلاح الإعلام ثم مساهمته في بناء عراق أوصلته تجربة البعث إلى الدمار الشامل، يدرك أنه لا يعرف المستحيل لكنه في الوقت نفسه لا يقلل من أهمية التحديات التي يواجهها بين حرب داخلية لتكريس السيادة وتطهير الإدارة وقطع يد الفساد وتوحيد الأجهزة الأمنية وإعادة تنشيط التنمية وصيانة كرامة العراقي وحرياته ولقمة عيشه وبين صمود خارجي أمام السباق الإقليمي – الدولي المحموم على العراق وجعله أرضاً للحرب بالواسطة أو صندوق بريد لإيصال رسائل… نارية في غالب الأحيان.
الرحلة في عقل الكاظمي توصلك حتماً إلى كتابه «مسألة العراق… المصالحة بين الماضي والمستقبل» وهو يعكس طريقة تفكيره السياسي الأقرب إلى الفلسفة الأخلاقية والوجدانية، فالمصالحة هي بداية أي تحرك. بين الإنسان والقيم، والإنسان ومبادئ الوطنية، والأهم الإنسان وإنسانيته وحريته والعدالة والحقوق. يعتبر الكاظمي أن المصالحة «ليست أن نجلس معاً، بل أن نتشكل، وجدانياً، معاً، لنحدّد، من ثمّ، رؤيتنا للعراق والعالم»، ويعمل بين خطين متفاعلين: الماضي والمستقبل، مؤمناً بجدل الإنسان كونه نصف الحاضر وكل المستقبل، وناقلاً هذا الجدل من إطاره الفلسفي الوجودي إلى حيز التطبيق.
وبما أن الرؤى لا تنفصل، فالمصالحة وطي صفحة الماضي بين الكويت والعراق يتمان «بوضع أسس جدية لتعبيد طريق سريع إلى المستقبل»… وليس بجلوس المسؤولين معاً فحسب.